من مجلة المرأة السوفيتية |
هناء الخمري
على الرغم من التاريخ الدموي السياسي في جنوب اليمن، إلا أن الكثير من اليمنيون يعترفون بفرادة تاريخ الجنوب تحت ظل جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي كانت عاصمتها عدن. هذه الفرادة تمثلت في منح المواطنين حقوقهم الإجتماعية، على حساب الحقوق السياسية. هذه الحقوق تمثلت على سبيل المثال في التعليم الإلزامي وفرض المساواة بين الرجل والمرأة.
إلى جانب الإحتفاء بالحقوق الإجتماعية، كانت الأجواء في الجنوب وخاصة في عدن مشجعه على العمل الثقافي، بكافة أنواعه. استلهم الجنوب وقتها الحراك الثقافي السوفيتي لخلق شخصيته الإشتراكية واليمنية في أن معاً. لذلك انفتح الجنوب على أفق ثقافية راحبة. هذه الأفق سمحت بولادة حراك ثقافي متميز عن اقراناه في الجزيرة العربية وحتى الدولة الشقيقة المنفصلة والمجاورة له، الجمهورية العربية اليمنية انذاك.
الأن وقد سقط الإتحاد السوفيتي منذ أكثر من عشرين عاماً، وأندمج اليمنيين ليَخلُق يمناً واحد عنون كالجمهورية اليمنية، إلا أن ذاكرة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الجنوبية تأبى وأن تعود بنا إلى صفحات الماضي. وهذه المرة تأخذنا أول راقصة بالية يمنية إلى أزقة تلك المرحلة. وتروي لنا كيف أن اليمن اليوم الذي يخجل من فن الرقص خاصة عندما تؤديه إمرأة، قد أفتتحت في الماضي مدارس للفنون الجميلة وابتعثت طلاب وطالبات على قدم سواء لإحتراف الرقص الشعبي والعالمي.
أنيسة أنيس عباس تسذكر طفولتها مع طلقات النضال ضد الإستعمار البريطاني للجنوب الذي امتد أكثر من 100 عام. كانت هناك في عدن المدينة التي لا تشبه أي شيء. كما تصفها " أتذكر جدتي وهي تأوي المقاتلين الأحرار في البيت عندنا". كان 1967 موعدنا للإحتفال بميلاد الدولة الجديدة. كانت أنيسة الطفلة ذات خطى حثيثة نحو الشمس.
"الرقص كان ولازال ملاذي ، هي بوصلتي لمعرفة اليمن ولإكتشاف التنوع اليمني الثري". أنيسة التي انتقلت للسويد وبريطانيا منذ تسعينات القرن الماضي مازال قلبها ينبض يمنياً" الإغتراب لدواعي التعليم والأسرة كان جزء من الخارطة التي رسمت حياتها، اتساءل كيف أثر ذلك عليها.. تتأمل البعيد مستدعية صورة من أرشيف الجنوب لتقول "سمعت صوت الرصاص قبل صوت الطبل في الجنوب... الإطياف الإشتراكية المتناحرة كانت تتقاتل فوق سقف بيتنا، كان بيتنا في المنصورة على مرمى الرصاص في عدن. لذلك أعتدت حالة الإضطرار ولإنتقال من منطقة لأخرى ومن مدينة لأخرى."
أنيسة كبرت في بيت يحب الموسيقى، أصطحبها والدها للمهرجانات الموسيقية وحفلات رأس السنة في عدن. كانت ترقص على كل نغمة تعبرها، لتتفتح بذلك علاقة حب للرقص فيها. كانت تحلم بإحتراف الرقص لكنها جوبهت بخوف الأب والأسرة عليها... أقنعتهم بدراسة الهندسة المعمارية صباحاً ودراسة الرقص مساءاً لكن والدها رفض أن ينظر في الأمر. تدخل وزير الثقافة أبانها عبدالله باذيب صديق الوالد وتمكن من إقناعه أخيراً بإلحاق أنيسة بأول معهد للفنون الجميلة لتكون بذلك جزء من الدفعة الأولى التي تخرجت في السبيعينات.. " تركيبة المجتمع في عدن مختلفه عن سواها" تقول أنيسة وتردف" الناس يحبون الغناء والرقص والفرح . كانت الموسيقى مفتاح للإستكشاف والإحتفاء بتنوع الوجوه، والتضاريس والطبيعة في اليمن"..
تستذكر أنيسة أستاذها البرت من الإتحاد السوفيني سابقاً الذي كان يدرسها ويمرنها هي وزملائها على فنون الرقص الكلاسيكي وعلى بعض الرقصات العالمية والفلوكلورية المسرحية في عدن. "كان الأستاذ البرت يتجول في القرى اليمنية ليستكشف الرقص الشعبي اليمني ويدمجها بالرقص الكلاسيكي، وكنا نحن طلابه نقدم الرقصات التي صممها في المسارح العربية والعالمية". عبر اللوحات الفنية الراقصة وبرفقة عازفي الفلكلور جابت أنيسة العالم عن طريق المعهد ولا حقاً عبرالفرقة الوطنية للفنون الشعبية التي كانت أحد مؤسسيها.
حينها اُستقبل الرقص اليمني في مهرجان قرطاج في تونس، ومن ثم في المغرب، بلغاريا والمانيا وغيرهم... كان قلبها يشدو رقصاُ أكثر من الهندسة المعمارية فمكنت نفسها بالتعليم الإكاديمي وبها حَلقت إلى الإتحاد السوفيني سابقاً عبر منحة من وزارة الثقافة لتحصد شهادة الماجستير في فن وإخراج المسرح الراقص. وفي اليمن الجنوبي كانت تمنح الدولة مراتب مختلفة للراقصين، وحصلت أنيسة على رتبة راقص أول في دولة اليمن الديمقراطية الشعبية.
عندما تركت أنيسة اليمن لإكمال تعليمها، كان الجنوب يمر بإضطرابات سياسية حتى إنفجرت الحرب الأهلية الدموية في 86. وبعدها بعامين بدأ الجنوب والشمال مفاوضات الإندماج في يمن واحد موحد " كانت الوحدة حلم تاق إليه الجميع، لكن محزن ما ألت إليه الأوضاع من رفض وتكفير للفن في الجنوب بعد الوحدة". على الرغم من التضييق والتهميش ضد الفنانون والفنانات في اليمن، إلا أنها ترفض الإستسلام واليأس. لذلك مازلت أنيسة مخرجة الرقصات والتصميم تركض في كل حدبأ وصوب بحثاٌ عن مسرح يحتضن لوحاتها الراقصة التي تَدمج فيها الفلكلور اليمني بالرقص الحديث.
كنا نحتسي كوباً من القهوة في أحد مقاهي العاصمة السويدية استكهولم، عندما اسأل أنيسة، لماذا تصرين على الإستمرار على الرغم من سوداوية الوضع في اليمن فتقول بثقة " شوفي: إذا محينا كل الحدود المرسومة داخل الخريطة اليمنية، وتاهت بنا الطرق - لا نعرف شمالاُ من جنوباً، حينها سيعيينا الرقص اليمني الشعبي في كل قرية على إعادة رسم خريطتنا ، على ترسيم ذواتنا، تنوعنا، ثرائنا وهويتنا. وعوضاُ عن الإقتتال بسبب إختلافنا، سنحتفل ونرقص لها"